كارثة حريق درنكة ـ أسيوط 1994

محرقة درنكة .. الكارثة المنسية

جمعية البترول أقامت مستودعها فى مخر السيل .. والنتيجة أكثر من الف قتيل


مضت 12 عاماً على كارثة حريق درنكة التى راح ضحيتها أكثر من الف قتيل .. مئات الأسر ماتوا حرقاً فى دقائق بعدما اختلطت مياه السيول التى اجتاحت قريتهم فى ذلك اليوم من عام 1994 بالمواد البترولية التى تسربت من الخزانات التى أقامتها الجمعية التعاونية للبترول فى مخر السيل على سفح جبل أسيوط الغربى

احترق الضحايا من أطفال ونساء وشباب وشيوخ فى بيوتهم ولم ينج أحد من مئات المنازل المنكوبة الواقعة فى منطقة منخفضة على أطراف القرية سوى من شاءت الأقدار ألا يبيت فى داره فى تلك الليلة المشئومة التى انتهت بكارثة صباح يوم الأربعاء الثانى من نوفمبر ، بينما كان هناك العشرات من الضيوف أمضوا الليلة فى أحد البيوت بعد حفل عرس فلم يخرج منهم أحياء وأكلت النار العروسين والفرح والمعازيم .. بل أن أحدا لم يستطع أن يقدم حصرا دقيقا حتى الآن للأرقام الحقيقية للضحايا بسبب الإبادة الجماعية الكاملة التى تعرضت لها بعض العائلات حتى جيرانها لم يبق حيا بينهم ليدلى بمعلومة حول المتواجدين فى الساعات الأخيرة .. بينما كانت حرارة النيران كفيلة بتفحم الكثير من الجثث .. كما طمرت الرمال التى حملتها السيول ما تبقى من أطلال البيوت المحترقة بمن فيها تحت طبقة سميكة تزيد عن مترين

تبدو تلك الكارثة وكأنها منسية سقطت من الذاكرة .. أو كأنها كارثة مسكوت عنها عمداً من فرط بشاعتها

كانت الساعة قد قاربت السابعة صباحاً فى ذلك اليوم حينما اندلعت النيران فجأة لتغمر تلك المنطقة من قرية درنكة القريبة من مدينة أسيوط .. فى ثوان كانت مئات البيوت قد تحولت الى كتلة لهب انطلقت السنتها الى عنان السماء مئات الأمتار جعلت رؤيتها ممكنة من أى مكان فى مدينة أسيوط وتؤكد السحابة السوداء الكثيفة التى تعلوها أنها ناتجة عن حريق هائل لمواد بترولية ويؤكد اتجاهها أنه صادر عن المستودع الاستراتيجى المملوك للجمعية التعاونية للبترول الذى كان مجهولا فى ذلك الوقت إلا للمختصين

كانت الأمطار قد تواصلت طوال الليلة السابقة .. وكان متوقعا بعد أمطار بتلك الغزارة أن تسقط السيول على سفوح الجبال .. وكان سكان المنطقة المنكوبة من بسطاء القرية نائمين مطمئنين برغم تدفق المياه حول بيوتهم وتسربها الى مخادعهم .. لم يشعروا بأن السيول تلك المرة مختلفة .. فى تلك المرة أتت المياه محملة بأطنان من المواد البترولية ـ البنزين والديزل ـ التى تسربت فى هدوء من أحد المستودعات الهائلة التى أقامتها إحدى المؤسسات العامة فوق رؤوسهم

يضم المستودع 9 خزانات .. كان أقدمها منصوبا فوق قاعدة صلبة فصمد أمام السيل المتدفق من أعلى الجبل .. لكن أحدثها تمكنت المياه من نخر قاعدته الخرسانية الهشة فمال على جانبه وانكسر جداره وتسرب منه الوقود أطناناً مختلطاً بالمياه المتدفقة .. وزحف الخليط القاتل بسرعة وهدوء إلى البيوت الفقيرة .. حاصرها .. اقتحمها .. مضت المياه تتسلل فى بطىء حتى غمرت كل مكان حتى وصلت الى مصدر اشعال فتتحول فجأة المنطقة الى كتلة واحدة من الجحيم المستعر

حينما وصلت إلى موقع الكارثة بعد دقائق كان الهدوء يسيطر على المكان .. ثقيلا .. كئيبا .. كان للصمت صوتاً يطغى على دمدمة الريح وحسيس وزمزمة النيران وخرير المياه التى أكسبتها الرمال التى جاءت بها من الجبل اللون الأصفر فيما كانت تتقاذف أثناء تدفقها سيارة فنطاس طافية وعربة قطار مقلوبة وأغصان شجرة ساجدة بينما تمضى للغرابة حاملة بقع من النيران فوقها وهى تعبر الحقول التى تحولت الى بحيرات ممتدة .. كان الهواء يحمل رائحة الموت .. شواء عفن ودخان خانق .. بينما مئات البيوت المحيطة يقف ما تبقى منها أطلالا بعدما اتت النيران على كل ما فيها من لحم بشرى وحظائر حيوانات وأدوات إعاشة .. وبدت النوافذ والأبواب الخالية الا من السواد كأنها أفواه شاهقة لا ينطلق منها سوى صوت الصمت ..
حالة من الصدمة انتابت الأهالى القلائل الذين بقوا يتابعون الكارثة .. همسوا بأنه لا أحياء خرجوا من كل تلك البيوت التى كانت قبل ساعات ذاخرة بالحركة والحياة .. بينما انشغلوا فى جمع كل ما يفيد لتغطية نحو 12 جثة شاهدتها متراصة على جانب الطريق

هناك شيىء أكبر من الحزن .. أشد وطأة .. أكثر عمقاً .. شيىء يجعل المشاعر تتجمد والدموع تجف فى مآقى ذلك العجوز العارى الذى أخذ ينبش بيديه بحثا عما تبقى من أسرته الكبيرة فخرج يحمل جثة متفحمة وهو يقول بأسى وبلا دموع "هذا حفيدى"

فى موضع آخر .. وقف بعض الأهالى يتجادلون مع رجال الدفاع المدنى حول حقيقة ما استخرجوه من عظام محترقة .. هل هى آدمية أم بقايا حيوان

بعد 6 أيام من الكارثة لم يكن أحدا قد تعرف على أى من الجثث التى تم اسنخراجها والتى قاربت على الخمسمائة .. الجثث المتفحمة ليست فى حاجة إلى حفظها فى ثلاجات .. فتكدست فى أحد عنابر بدروم المستشفى العام .. بينما انطلقت التحذيرات الصحية من مخاطر تفشى وباء الكوليرا نتيجة بقاء الجثث فى العراء
وكانت النتيجة مقبرة جماعية للضحايا .. وتوقيع أهالى الضحايا على إقرارات بالتعرف على الجثث لاستخراج شهادات الوفاة وتسهيل صرف التعويضات .. وردم ما تبقى من أطلال البيوت بما تحتها من ضحايا مجهولين لازالوا باقين فى أماكنهم حتى اليوم

أصداء الكارثة

بعدما تناقلت وكالات الأنباء العالمية أنباء الكارثة البترولية الفريدة وضحاياها الكثر .. انهالت برقيات التعازى على مصر .. من الرئيس الأمريكى ، ومن الزعماء العرب مصحوبة بتبرعات بالملايين ومواد إغاثة متنوعة
فى اليوم التالى "الخميس" حضر الى درنكة رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقى .. أقلته سيارة المحافظ من المطار حتى مشارف القرية ثم ترجل من السيارة وسار 10 خطوات أمام كاميرا التليفزيون متحاملا على نفسه بسبب المرض وظروف السن ثم توقف لتسجيل حديث تليفزيونى والإدلاء بتصريحات صحفية للتعبير عن الاهتمام الرسمى والتضامن مع الضحايا ثم قفل عائداً
فى صباح يوم الجمعة .. فاجأ الرئيس مبارك الجميع بجولة بالطائرة فوق قرية درنكة لكن الطائرة لم تستطع الهبوط لظروف فنية طبقا لتصريحات الرئيس للجمهورية .. لكن الرئيس عاد الى درنكة مرة أخرى بعد شهور لتوزيع البيوت المجانية التى أمر بإقامتها فى منطقة قريبة أطلق عليها "درنكة الجديدة"

لكن الحديث جرى فى كل المناسبات حول السيول .. وآثارها المدمرة وخطأ الأهالى الذين اختاروا أن يقيموا بيوتهم بلا وعى فى مخرات السيل على سفوح الجبال .. ولم يذكر أحد أن ضحايا درنكة قضوا حرقا وليس غرقاً .. وأن الدولة أقامت مستودع للبترول فى مخر السيل هناك .. وقيد الحادث ضد مجهول

هناك 4 تعليقات:

a.nashat يقول...

يبقى انت اكيد اكيد فى مصر

غير معرف يقول...

النمر الاسود
انا من سكان هذة القريه
وقد شهت هذا الحادث المروع وكان وقتها عمرى لايتعدى 6 سنوات والغريب والطريف اننى اتذكر هذا الحادث وكأنه حدث البارحه
وكأنه صدق من قال
(ان المواقف السيئه صعب نسيانها)
وقد رأيت مناظر ومشاهد صعب تخيلهااو حتى وصفها
شاهت اندلاع النيران وارتفعها الشاهق الذى يصل مئات الامتار
وقدوم النيران من باطن الجبل وكأنه بركان ثائر غاضب يقضى على كل سئ امامه ويأكل على الاخضر واليابس
والغريب فى هذا الامر
(رايت الماء محملة بالنيران)
والاحجار تنزل من الهضبه مسرعه وكانها زلزال
وهناك الكثير من المواقف الصعبة افضل عدم ذكرها
كلمه اخيره
من اراد ان يتعظ فل يتذكر هذا اليوم

غير معرف يقول...

على فكرة انا من درنكة وكان عمرى يومها حوالى 6سنوات بس انا فاكر كل حاجة كويس زى ماتكون امبارح ...يلا ربنا يرحم ضحايا السيول والحريق ...بجد كان يوم فظيع فى حياة كل درنكى..واكتر عائلة تضررت من هذه الكارثة هى عائلة ال عبدربه والتى تسكن قبلى البلد بجوار مخازن البترول انذاك...على فكرة انا من بيت عبدربه اكبر عائلة فى درنكة واقدم واعرق عائلة

غير معرف يقول...

ولاتحسبن الذين قتلوافي سبيل الله أمواتابل أحياءعندربهم يرزقون عصام النسر