كارثة الأداء المهنى للصحافة

كارثة الأداء المهنى للصحافة


بعض الحكام والإعلام يحلو لهم رؤية شعوبهم قطيعاً من الغوغاء يصفقون لمشاهد الدم فى حلبة القيصر بينما اسوده تلتهم اعداؤه
ومتابعة الشأن الداخلى وأخبار القضايا التى يجرى الاعلان عنها هذه الأيام يجد اختلافا غريبا وفادحا فى التفاصيل المنشورة بين صحيفة وأخرى .. ليس فى اضافة معلومات جديدة بل فى تناقض المعلومة الواحدة .. فمثلا فى احدى قضايا الرشوة التى جرى الاعلان عنها مؤخرا .. نجد المبلغ يقول فى احدى الصحف أنه قدم بلاغه قبل 4 أيام فقط من واقعة الضبط .. بينما نجد صحف أخرى تتطوع باضافة مزيد من المجد لضابط الواقعة قائلة أن الضبط كان نتيجة شهور طويلة من الرصد والمتابعة !! وقد نفاجأ فى النهاية بأن المتهم قد حصل على البراءة لأن ما وجده القاضى أمامه من وقائع فى أوراق الدعوى يختلف تماما عما قرأناه فى الصحف .. والحقيقة أن المفاجأة فى مثل هذه الحالات تكون لنا نحن فقط القراء والمتابعين عن بعد ولكنها تكون الأمر الوحيد المتوقع لكل من قرأ أوراق القضية .. ونكتشف أن ما غرقنا فى تفاصيله لمدة شهور مجرد بطولات زائفة تستوجب العقاب لا المجد .
وقضية حديد أسوان مثلا .. ففى عام 1998 افردت الصفحات للمشروع وكتب عنه أنه أول مشروع قومى يجرى
تنفيذه بمعرفة القطاع الخاص وانه سيوفر الآلاف من فرص العمل وسيغير من وجه الحياة فى صعيد مصر .. وقبل أن يمض العام كانت صفحات أخرى قد أفردت له ولكن بمعرفة أقسام الحوادث لتتحدث عن القبض والحبس والادانة .. ثم عدنا على استحياء لنشر خبر جديد عن صدور الحكم ببراءة المتهمين وادانة المحكمة للسياسات التى أدت الى التعامل مع القائمين على المشروع بمثل ما جرى .. كان ينبغى أن يصدمنا هذا الحكم وان نتوقف عند ماجرى ومانشر ولكن ضاع الحكم التاريخى فى الزحام وعادت ريما لعادتها القديمة تبحث عن الاثارة والتشويق وتبادل المصالح فى الدهاليز .

الخاسر الأكبر هو الوطن .. هو نحن جميعا .. ولا يرض أحدا أن يكون للصحافة أى دور فى هذا الاثم .. بل المنتظر من السلطة الرابعة أن تكون عين ساهرة على حماية المجتمع بأن تكون مرآة للحقيقة .. لا أداة لأجهزة أو لسلطات أخرى .. فالسلطة بطبيعتها تفسد الأنبياء كما يقول الفرنسيون .. مؤكد هناك تعاون مطلوب بين السلطات لحماية المجتمع .. ولكن مع حرص كل سلطة على استقلالها .. فالفقه السياسى انتهى منذ دهر الى حقيقة أن "السلطة تحد السلطة" .. ومن هنا كان المبدأ السياسى والدستورى الهام والذى يأخذ به التشريع المصرى .. مبدأ الفصل بين السلطات .

وهذا يقودنا الى مناقشة الأداء المهنى فى الصحافة الآن .. انه يبدو كالعدوى داخل الجريدة أو المؤسسة الصحفية يتأثر بالادارة وبالسلوك العام لكن المبادرات الفردية يظل لها دور ..
السلوك العام له محدداته كأن يكون هناك قواعد أو تقاليد راسخة تحكم العمل علاوة على دور رئيس التحرير فى تكريس هذه القواعد .. وهو شىء مختلف تماما عن القيام بدور الرقيب على ما يدونه المحررون .. فالأداء المهنى الجيد يرتبط بداهة بمطابقة المنشور للواقع وليس للاتجاه السياسى .
ولن نختلف حول مفهوم "الواقع" أو معنى الحقيقة التى تبدو فى معظم الأحيان متعددة الوجوه .. فهذا الاختلاف هو ما يفرق العمل الصحفى بين عمل متوازن أو عمل احادى الرؤية .. والأول كاشف للوجوه المختلفة للحقيقة .. موازن بين أطرافها يطرح كل وجهات النظر ليعمل فيها عقل القارىء وفكره .. والثانى لا يرى من الحقيقة الا ما يريد أن يراه .

أحدهم كان مكلفا باجراء تحقيق صحفى حول موضوع ما .. تطلب التحقيق استطلاع وجهة نظر أحد المسئولين .. وبدلا من أن يتجه الى مكتب المسئول .. استقل "الأسانسير" الى الأرشيف ومنه بحث عن صورة للمسئول وعن حديث سابق نشره واقتبس بعض فقراته .. ولكن بعد النشر تبين أن هذا المسئول توفى قبل شهور .. وكان لرئيس التحرير موقف صارم للغاية حقق ردعا للمحرر وانضباطا فى العمل .. مثل هذا الموقف يسعد المجتهدين لأن معاناتهم من أجل تنفيذ عمل صحفى حقيقى لم تذهب سدى بل كانت ثمنا يحول دون التعرض لمثل ما تعرض له الزميل .. كما أنه يحقق ردعا لمن يضعف فى مواجهة الأعباء اليومية يحول دونه والسير فى هذا الطريق السهل .. وقد لا يجدى مع فئة ثالثة احترفت الفبركة بأكثر من جعلهم أكثر حرصا فى ممارسة ما اعتادوا عليه .. ولكن فى النهاية هذا الموقف الصارم لرئيس التحرير كان كفيلا بتحقيق الانضباط فى السلوك العام للعمل داخل الجريدة لعدة سنوات .
وعلى النقيض .. كانوا فى بعثة لتغطية حدث هام .. صحفيون من صحف ومجلات مختلفة .. الحدث كبير والمعلومات يتم الحصول عليها بشق الأنفس وكل منهم يحاول أن يبذل أقصى جهده من أجل أن يتميز بأداء مهنى وانفراد صحفى لجريدته .. أحدهم "اشترى دماغه" وقام بتأليف قصة بعثها لجريدته لتنشر فى اليوم التالى المانشيت الرئيسى للصفحة الأولى مع
تهنئة تليفونية من رئيس التحرير على هذا التميز الصحفى !! ومن يومها وصاحبنا يخاصم الحقيقة فى كل ما يكتبه بل أنه ينظر لمن يبذل جهدا مهنيا على أنهم "ناس مش فاهمة" !!

أما كتاب المقالات والأعمدة الصحفية فليسوا أفضل حالا .. وخاصة الكتاب الهواه من منازلهم وتصبح كتاباتهم كارثة حينما يعلقون على الحوادث الداخلية ولا مصدر أمامهم سوى ما اعتادوا مطالعته من صحف يومية أو أسبوعية يأخذون من المنشور حقائق مسلم بها ثم يقيمون عليها التحليلات والتفسيرات والمواقف .. دون اعتبار لمسئولية الكلمة التى تقتضى الرجوع الى المصادر الأساسية للمعلومات .. ولكن هذا يتطلب المشقة أو أنه ليس متاحا .. فلا يبقى سوى الطريق السهل لارضاء هواية الكتابة وشهوة الشهرة وسلطة القلم واما الكتابة عن السياسة الخارجية التى لا تزعج أحدا مثلما يفعل الكثير من كتابنا المحترمين .. والخاسر فى النهاية قد يتجاوز أفرادا الى مصالح ومستقبل مهنة ووطن .

توجد بديهيات تعلمناها من أساتذة عظام بقيمهم وأخلاقهم .. منها أن الكلمة مثل الرصاصة متى انطلقت لا يمكن ارجاعها .. وحينما يحرر الخبر فلابد من استبعاد العناصر الغير مؤكدة .. ولا بد أن يسند الخبر الى مصدر واستخدام مصدر مجهول مثل العبارة الشائعة "صرح مصدر أمنى مسئول" لا تكون الا فى أضيق الحدود ..
استخدام الألفاظ يحتاج الى تدقيق .. فان " أكد " تعنى أننا نصدق .. "وأعلن " تحمل تضخيما لما سيأتى بعدها .. لكن كلمة " قال أو صرح " فهى حيادية .. مع نشر نص كلمات المصدر بين علامتين فيما يتعلق بالأفكار الهامة التى وردت بالحديث .
الخبر المتوازن .. يحمل وجهات النظر المتباينة حول الموضوع الواحد .. فاذا كنا بصدد نشر اتهام حول شخص فان التوازن يقتضى نشر أقوال هذا الشخص فى نفس الخبر مع أقوال المصادر التى وجهت اليه الاتهام .
وفى الواقع العملى فان الأفراد الذين يوجهون الاتهام ينتمون غالبا الى هيئات رسمية .. هؤلاء الأفراد أصحاب مصلحة فى اعلان القضايا أو عن جهودهم حيث يستطيع المحرر أن يحصل على الخبر هاتفيا أو بعد احتساء فنجان القهوة المحوجة فى مكتب هذا المسئول .. وفى أجندة أى محرر بقسم الحوادث أرقام هواتف هؤلاء بل هناك علاقة حميمة بين المحرر والمصدر تكونت من تكرار التعامل .. يؤدى الى أخذ أقوال هذا المصدر كأنه الحقيقة المطلقة دون تكبد مشقة البحث عن المتهم الذى لا يعرفه أحد ومخاطر التعرض لمواقف مجهولة .
ناهيك عن وقوع المحرر تحت ضغط المصدر على نحو يدفعه الى الاجتهاد فى اتجاه خدمة المصدر والمزايدة على نشر جهده ووجهة نظره حتى يضمن استمرار تدفق المعلومات اليه وخوفا من أن تأخذ طريقها الى مندوبى الصحف الآخرى وتفويتها عليه .

مطلوب تشكيل لجنة من داخل نقابة الصحفيين لمراقبة الأداء المهنى .. لا يكون أعضاءها من مجلس النقابة مع احترامنا الكامل لهم حتى لا يكونوا واقعين تحت ضغوط الأصوات الانتخابية .. وليس مطلوبا أن يكون للجنة سلطة فرض عقوبات
اللجنة عملها تطوعى من شخصيات لهم سمعة مهنية محترمة .. معنيين بكرامة المهنة ومستقبلها يؤدون رسالتهم فى متابعة ما ينشر ومطابقته للواقع ويصدرون بيانا عن كل حالة تجاوز وتقريرا سنويا يكون تحت بصر جميع الاصدارات الصحفية .. بهدف تشكيل رأى عام فى الأوساط الصحفية ضد الممارسات المسيئة للأداء المهنى .
ويمكن ربط هذا الأمر بأسلوب توزيع جوائز نقابة الصحفيين لتكون بالاختيار وليس بالتقديم

الأداء المهنى للصحافة قضية لا تهم الصحفيين فقط لكنها تهم القراء أيضا .. ومن المفيد أن يتعرف القراء على أصول الموضوعية فى التحرير الصحفى حتى يفرقون بين الغث والسمين بين الفبركة والحقائق بين من يقدمون لهم خدمة صحفية حقيقية ومن يدمنون الخداع
.

ليست هناك تعليقات: