الاصلاح وحقوق الانسان وحرية الصحافة



الصحافة تمثل  جزء من المجتمع وليست كائنا يمكن عزله مختبريا عن الوسط الذى تحيا فيه..

فمثلا لا يمكن  تصور صحافة حرة دون قضاء نزيه .. وأنا من هنا أتحدث كشاهد عيان عن تجارب 13 قضية نشر كنت المتهم فيها أمام النيابة ومحاكم الجنايات والجنح وحصلت فى جميعها على البراءة ..

أعتقد أن نزاهة  القضاء هى الضمانة الأولى لحرية الصحافة حتى قبل التعديلات التشريعية والمطالبة  بالغاء المواد السالبة للحرية من عقوبات جرائم النشر رغم انضمامى لهذا المطلب  بالطبع .. وأزعم أن الابقاء على هذه المواد هدفه أغراض أخرى ليس من بينها المعلن  عن حماية المجتمع من تجاوزات الصحافة.

أقول أن هذا الحوار هو خطوة هامة وضرورية لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة والسائدة فى المجتمع التى تؤثر بدورها على الصحافة

فلدينا ثقافة فى المجتمع مناوئة لحقوق الانسان ثمرة عقود من الانتهاكات والاحباط .. وأرى أن تصحيح  ثقافتنا تمثل خطوتنا الأولى حتى قبل أن نسعى لتصحيح منظومة الحكم رغم أهميتها باعتبارها المدير للمجتمع بكل ما تمثله الادارة من مفاهيم يمكنها النجاح فى استثمار موارد المجتمع أو الفشل الذى يؤدى لاهدار أثمن ما نملكه من ثروات وحتى  قيم.

-   أتصور أنه لا يمكن تصحيح النظام قبل تصحيح ثقافتنا ورؤيتنا لبعضنا البعض.. أو قبولنا للآخر .. وأضرب مثلا بشيوع نظرية المؤامرة فى مختلف أوساط المجتمع.. مسألة قد تبدو هامشية لكنها بالغة الخطورة  على جهود الاصلاح ..

-   فالاصلاح لن يحدث الكترونيا لا يوجد اصلاح ديجتال .. لا الحكومة ولا أى مؤسسة عامة أو خاصة يمكنها أن تقدم اصلاحا بمعزل عن البشر .. بدون شخصيات قيادية تحوز على الثقة العامة ويلتف الناس حولها لتقودهم الى التغيير سواء  فى الثقافات أو السياسات أو الرؤى التى يتطلبها الاصلاح .. ولكن للأسف أين هؤلاء ـ أقصد القادة ـ فى ظل شيوع ثقافة نظرية المؤامرة ؟

كيف يمكن أن يحدث  اصلاح دون قادة وكيف يكون لدينا قادة بينما نحن مستعدون دائما للشك فى نوايا  كل ساعى للعمل العام بل مستعدون لتلويثه وهتك سيرته بدم بارد.

 

-   أشير فى هذا الصدد إلى شيوع مقولة " سوء الظن من حسن الفطن" التى يرددها البعض وكأنها جزء من الشريعة فى حين أنها تناقض أحكام الشريعة الاسلامية.. ومن أروع الذين تصدوا لهذه المقولة الدكتور أحمد كفتارو مفتى سوريا السابق .. استند الى القران والسنة للتأكيد على ان سوء الظن خطيئة وليس حسن  فطن ..

-       وأقر الامام على ابن أبى طالب ما يمكن اعتباره مبدأ فى البحث الجنائى

"اذا ظننت فلا تحقق"

وهو القائل بأن من فى فمه رائحة الخمر لا يحد لشربها .. فقد يكون قد تمضمض بها أو اكره على شربها".. وأعتقد أنه موقف يعكس الوعى  بخطورة شيوع سوء الظن على سلامة المجتمع.

 

-   أقول أن الصحافة جزء من المجتمع .. تتأثر بالسائد فى المجتمع من قيم سواء سلبا أو إيجابا ، وان هناك بعض القيم فى المجتمع غير مساندة  لحقوق الانسان .. هذه القيم السلبية تتسلل الى الصحافة بل انها أصبحت ممارسات طبيعية فى غالبية الصحف .. مثلا المتهم برىء حتى تثبت ادانته أعتقد أنه مبدأ معلق غالبا.. يتم استدعاؤه حسب الظروف.

-   أسقطت صفحات الحوادث فى معظم الصحف سواء قومية أو حزبية أو خاصة فضيلة الرأى والرأى الآخر عند تغطيتها الاخبارية للحوادث .. فالخبر يبدأ  وينتهى بمعلومات جهات الضبط والتحقيق ويغفل أقوال المتهمين .. بل انه أثناء تغطية  المحاكمات تفرد الصحف أقوال شهود الاثبات من رجال الضبط رغم أن هؤلاء يقفون أمام  المحاكم بغرض مناقشتهم فى أقوالهم التى أدلوا بها فى مرحلة التحقيقات وليس لإعادة سماع أقوالهم..

فى مقدمة أسباب هذه الظاهرة .. تلك القيود المفروضة على تداول المعلومات والتى تخضع المحرر لضغوط المصدر يجب أن يعمل على ارضاؤه حتى لا يحرم من معلوماته.

رغم أن هذه الانتقائية فى نقل الحدث تمثل قصورا مهنيا لأنه يحرم الخبر من الحيوية التى يمكن أن يوفرها له نقل الحوار الذى يجرى أمام منصة القضاء بين أطراف متعددة  ومتنوعة للقضية وليس مجرد نقل سرد مكرر.

-   ما سبق يكشف كيف تُستغل الصحف والرأى العام فى التشويش على العدالة والتعجيل بادانة المتهمين .. أمر لا آدمى يشبه أحيانا القاء أباطرة الرومان بمعارضيهم فى حلبات الأسود وسط  انتشاء النظارة.

-   بل أنه أصبح فى حكم العرف المستقر أن الصحف الكبرى ترفض  نشر أسماء محامى الدفاع الا اذا كان المتهم هو رئيس التحرير بالطبع.. والمبرر لعدم  النشر هو ان ذلك يعد اعلان مجانى للمحامى وأتصور أن هذا المبرر يمثل اهانة للمحامى  وللمحرر على حد سواء .. كما أنه يفقد الصحيفة مصدر هام للخبر ويفقدها أيضا التوازن  الذى تفرضه الموضوعية .. ولكن يمكن اعتبار هذا مثال للتضحية بصالح العمل الصحفى  تحت ضغوط التقاليد السائدة غير المساندة لحقوق الانسان.

-   أعتقد أن هناك جهد يبذل لتوعية محررى الحوادث بحقوق الانسان وينظم المجلس القومى دورات تدريبية لهم لم أشارك حقيقة فى هذه الدورات لكن  ما شهدته من نتائجها لا يطمئن.. الصفحة الأولى فى صحيفة التدريب تبرز مجنى عليها فى جريمة اغتصاب وهى تضرب المتهم بالحذاء أثناء مثوله بين رجال الضبط.

-   أمر آخر .. كثر الحديث عنه دون نتيجة وهو مطالبة الصحف المصرية باعلان ما يسمى دليل السلوك المهنى أو الإرشادات التحريرية.. رغم أن إصداره  لن يأتى بما لم يستطعه الأوائل بل أنه موجود فى العديد من المؤسسات الصحفية الاقليمية والعالمية ولا يخرج عن حد أدنى من ضوابط الممارسة الصحفية النزيهة والموضوعية  منها الفصل بين التحرير والإعلان ومنح مساحات متكافئة لأطراف الحدث واستخدام  التعبيرات الحيادية فى تحرير الأخبار واحترام الحياة الخاصة ومراعاة المشاعر الانسانية.. نعم يوجد ميثاق الشرف الصحفى لنقابة الصحفيين وفيه من المبادىء  الكفاية ولكن يمكن أن يمثل اصدار مثل هذا الدليل اضافة أكثر تفصيلا للميثاق .. ومن الضرورى أيضا أن تكون هناك آلية تراقب التطبيق.

 

ختاماً:

أرى أن أخطر تجاوزات الصحافة تجاه حقوق الإنسان تقع من جهات مدعومة بالنفوذ .. يساعد عليها القيود المفروضة على تداول المعلومات.

وأرجو التأكيد على المطالبة بالغاء العقوبات المقيدة للحريات فى جرائم النشر .. والمبادرة باصدار لائحة نموذجية بالمعايير القانونية  والانسانية لنشر الحوادث تستند على مبادىء ميثاق الشرف الصحفى واعتماد آلية ضمن  المنظمة أو المجلس القومى للمتابعة اليومية لما تنشره الصحف يقوم عليه صحفيون وقانونيون يتمتعون بالثقة والسمعة الطيبة وإصدار  بيانات يومية للتصدى لما يقع من تجاوزات على المتهمين والأفراد ومبادىء النزاهة طالما  جاء النشر بالمخالفة لميثاق الشرف ولائحة المعايير .. تتحرك ذاتيا دفاعا عن القيمة والمبدأ دون انتظار لتلقى شكوى مواطن قد لا يقدر على مجرد الاحتجاج ، وكذلك إصدار  تقرير سنوى عن التجاوزات وتقديم جائزة لأفضل الصحف التزاما بمعايير حقوق الانسان  وكذلك جائزة لأحسن الموضوعات.

ليست هناك تعليقات: